فصل: (سورة النحل: الآيات 104- 105)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة النحل: الآيات 91- 92]

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)}.
عهد اللّه: هي البيعة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الإسلام {إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ}، {ولا تَنْقُضُوا} أيمان البيعة {بَعْدَ تَوْكِيدِها} أي بعد توثيقها باسم اللّه، وأكد ووكد: لغتان فصيحتان، والأصل الواو، والهمزة بدل {كَفِيلًا} شاهدًا ورقيبًا، لأن الكفيل قال يوم غدير خم: «من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» قال: نعم، وأخرجه ابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار من وجه آخر عن شريك عن إدريس بن يزيد الأودي عن أبيه عن أبى هريرة وتابعه عكرمة بن إبراهيم عن إدريس عند الطبراني، ورواه الطبري أيضا من طريق سليمان بن قوم عن أبى إسحاق عن حبشي بن جنادة، وأخرجه النسائي أيضا من طريق مهاجر بن مسمار عن عائشة بنت سعد عن أبيها أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أخذ بيد على يوم غدير خم فقال: «من كنت وليه فهذا وليه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه».
وأخرجه الحاكم من رواية مسلم الملائى عن خيثمة بن عبد الرحمن عن سعد بن مالك نحوه وفي الباب عن ابن عمر أخرجه الطبراني من طريق عطية عنه والبزار من طريق جميل بن عمارة عن سالم عن أبيه وعن أنس وغيره أخرجه الطبراني في الصغير من رواية طلحة بن مصرف عن عميرة بن سعد قال: شهدت عليًا على المنبر ناشد الصحابة: من سمعه يقول يوم غدير خم ما قال؟ فقام اثنا عشرة، منهم أبو هريرة وأبو سعيد وأنس وعن جرير أخرجه الطبراني مطولا: وعن طلحة أخرجه الحاكم من رواية رفاعة بن إياس العمى عن أبيه عن جده قال كنا مع على يوم الجمل فبعث إلى طلحة فقال له: نشدتك اللّه، ألم تسمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: فذكره، فقال: نعم. قال: فلم تقاتلني؟ قال: لم أذكره وانصرف طلحة.
وعن جابر أخرجه أبو يعلى، والطبراني في مسند الشاميين من طريق ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن قبيصة بن ذؤيب وأبى سلمة عن جابر، وعن حذيفة بن أسيد أخرجه الطبراني وجمع ابن عقدة طرف حديث غدير خم. فأخرجه من رواية جماعة آخرين من الصحابة مع هؤلاء: منهم عمار بن ياسر، والعباس وابنه، والحسن بن على والحسين بن على، وعبد اللّه بن جعفر، وسلمان الفارسي، وسمرة بن جندب، وسلمة بن الأكوع، وزيد بن حارثة، وأبو رافع، وزيد بن ثابت الأنصارى، ويعلى بن مرة وآخرون.
مراع لحال المكفول به مهيمن عليه وَلا تَكُونُوا في نقض الأيمان كالمرأة التي أنحت على غزلها بعد أَن أحكمته وأبرمته فجعلته أَنْكاثًا جمع نكث وهو ما ينكث فتله. قيل: هي ريطة بنت سعد بن تيم وكانت خرقاء، اتخذت مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وفلكة عظيمة على قدرها، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر، ثم تأمرهنّ فينقضن ما غزلن {تَتَّخِذُونَ} حال و{دَخَلًا} أحد مفعولي اتخذ. يعني: ولا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلا {بَيْنَكُمْ} أي مفسدة ودغلا {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ} بسبب أن تكون أمة يعني جماعة قريش {هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ} هي أزيد عددًا وأوفر مالا. من أمة من جماعة المؤمنين {إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} الضمير لقوله: {أن تكون أمة} لأنه في معنى المصدر، أي: إنما يختبركم بكونهم أربى، لينظر أتتمسكون بحيل الوفاء بعهد اللّه وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوّتهم وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم؟ {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ} إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام.

.[سورة النحل: آية 93]

{وَلَوْ شاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاء وَيَهْدِي مَنْ يَشاء وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)}
{وَلَوْ شاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً} حنيفة مسلمة على طريق الإلجاء والاضطرار، وهو قادر على ذلك {وَلكِنْ} الحكمة اقتضت أن {يضلّ مَنْ يَشاء} وهو أن يخذل من علم أنه يختار الكفر ويصمم عليه {وَيَهْدِي مَنْ يَشاء} وهو أن يلطف بمن علم أنه يختار الإيمان.
يعنى: أنه بنى الأمر على الاختيار وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان، والثواب والعقاب، ولم يبنه على الإجبار الذي لا يستحق به شيء من ذلك، وحققه بقوله: {وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.

.[سورة النحل: آية 94]

{وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94)}.
ثم كرر النهى عن اتخاذ الأيمان دخلا بينهم، تأكيدًا عليهم وإظهارًا لعظم ما يركب منه {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها} فتزلّ أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها {وَتَذُوقُوا السُّوءَ} في الدنيا بصدودكم {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وخروجكم من الدين. أو بصدّكم غيركم، لأنهم لو نقضوا أيمان البيعة وارتدّوا، لاتخذوا نقضها سنة لغيرهم يستنون بها {وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} في الآخرة.

.[سورة النحل: آية 95]

{وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)}.
كان قوما ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان- لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين، وإيذائهم لهم، ولما كانوا يعدونهم إن رجعوا من المواعيد- أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فثبتهم اللّه، {وَلا تَشْتَرُوا} ولا تستبدلوا {بِعَهْدِ اللَّهِ} وبيعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {ثَمَنًا قَلِيلًا} عرضًا من الدنيا يسيرًا، وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنونهم إن رجعوا {إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ} من إظهاركم وتغنيمكم، ومن ثواب الآخرة {خَيْرٌ لَكُمْ}.

.[سورة النحل: آية 96]

{ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96)}.
{ما عِنْدَكُمْ} من أعراض الدنيا {يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ} من خزائن رحمته {باقٍ} لا ينفد.
وقرئ {لَنَجْزِيَنَّ} بالنون والياء {الَّذِينَ صَبَرُوا} على أذى المشركين ومشاقّ الإسلام. فإن قلت: لم وحدت القدم ونكرت؟ قلت: لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه فكيف بأقدام كثيرة؟.

.[سورة النحل: آية 97]

{مَنْ عَمِلَ صالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)}.
فإن قلت: {مَنْ} متناول في نفسه للذكر والأنثى، فما معنى تبيينه بهما؟ قلت: هو مبهم صالح على الإطلاق للنوعين إلا أنه إذا ذكر كان الظاهر تناوله للذكور، فقيل: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى} على التبيين، ليعمّ الموعد النوعين جميعًا {حَياةً طَيِّبَةً} يعني في الدنيا وهو الظاهر، لقوله: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} وعده اللّه ثواب الدنيا والآخرة، كقوله: {فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ} وذلك أنّ المؤمن مع العمل الصالح موسرًا كان أو معسرًا يعيش عيشًا طيبًا إن كان موسرًا، فلا مقال فيه، وإن كان معسرًا، فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة اللّه، وأمّا الفاجر فأمره على العكس: إن كان معسرًا فلا إشكال في أمره، وإن كان موسرًا فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه، وعن ابن عباس رضي اللّه عنه: الحياة الطيبة: الرزق الحلال.
وعن الحسن: القناعة، وعن قتادة: يعني في الجنة، وقيل: هي حلاوة الطاعة والتوفيق في قلبه.

.[سورة النحل: الآيات 98- 100]

{فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)}.
لما ذكر العمل الصالح ووعد عليه، وصل به قوله: {فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} إيذانًا بأن الاستعاذة من جمله الأعمال الصالحة التي يجزل اللّه عليها الثواب، والمعنى: فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ كقوله: {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وكقولك: إذا أكلت فسمّ اللّه. فإن قلت: لم عبر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل؟ قلت: لأن الفعل يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه، فكان منه بسبب قوىّ وملابسة ظاهرة، وعن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه: قرأت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي: «يا ابن أمّ عبد. قل: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، هكذا أقرأنيه جبريل عليه السلام عن القلم عن اللوح المحفوظ» {لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ} أي تسلط وولاية على أولياء اللّه، يعني: أنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته {إِنَّما سُلْطانُهُ} على من يتولاه ويطيعه {بِهِ مُشْرِكُونَ} الضمير يرجع إلى ربهم، ويجوز أن يرجع إلى الشيطان، على معنى: بسببه وغروره ووسوسته.

.[سورة النحل: آية 101]

{وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)}
تبديل الآية مكان الآية: هو النسخ، واللّه تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع لأنها مصالح، وما كان مصلحة أمس يجوز أن يكون مفسدة اليوم، وخلافه مصلحة، واللّه تعالى عالم بالمصالح والمفاسد، فيثبت ما يشاء وينسخ ما يشاء بحكمته، وهذا معنى قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ} وجدوا مدخلا للطعن فطعنوا، وذلك لجهلهم وبعدهم عن العلم بالناسخ والمنسوخ وكانوا يقولون: إن محمدا يسخر من أصحابه: يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا، فيأتيهم بما هو أهون، ولقد افتروا، فقد كان ينسخ الأشق بالأهون، والأهون بالأشق، والأهون بالأهون، والأشق بالأشق، لأنّ الغرض المصلحة، لا الهوان والمشقة. فإن قلت: هل في ذكر تبديل الآية بالآية دليل على أن القرآن إنما ينسخ بمثله، ولا يصح بغيره من السنة والإجماع والقياس؟
قلت: فيه أن قرآنًا ينسخ بمثله وليس فيه نفى نسخه بغيره، على أن السنة المكشوفة المتواترة مثل القرآن في إيجاب العلم، فنسخه بها كنسخه بمثله، وأمّا الإجماع والقياس والسنة غير المقطوع بها فلا يصح نسخ القرآن بها.

.[سورة النحل: آية 102]

{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102)}.
في يُنَزِّلُ ونَزَّلَهُ وما فيهما من التنزيل شيئًا فشيئًا على حسب الحوادث والمصالح: إشارة إلى أن التبديل من باب المصالح كالتنزيل، وأنّ ترك النسخ بمنزلة إنزاله دفعة واحدة في خروجه عن الحكمة، و{رُوحُ الْقُدُسِ} جبريل عليه السلام، أضيف إلى القدس وهو الطهر، كما يقال: حاتم الجود وزيد الخير، والمراد الروح المقدّس، وحاتم الجواد، وزيد الخير، والمقدّس: المطهر من المآثم، وقرئ: بضم الدال وسكونها {بِالْحَقِّ} في موضع الحال، أي نزله ملتبسًا بالحكمة، يعني أن النسخ من جملة الحق {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} ليبلوهم بالنسخ، حتى إذا قالوا فيه: هو الحق من ربنا والحكمة، حكم لهم بثبات القدم وصحة اليقين وطمأنينة القلوب، على أن اللّه حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب {وَهُدىً وَبُشْرى} مفعول لهما معطوفان على محل ليثبت، والتقدير: تثبيتا لهم وإرشادا وبشارة، وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم، وقرئ: {ليثبت} بالتخفيف.

.[سورة النحل: آية 103]

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)}.
أرادوا بالبشر: غلاما كان لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه اسمه عائش أو يعيش وكان صاحب كتب، وقيل: هو جبر، غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي، وقيل عبدان: جبر ويسار، كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا مرّ وقف عليهما يسمع ما يقرآن، فقالوا: يعلمانه، فقيل لأحدهما، فقال: بل هو يعلمني.
وقيل: هو سلمان الفارسي، واللسان: اللغة، ويقال: ألحد القبر ولحده، وهو ملحد وملحود، إذا أمال حفره عن الاستقامة، فحفر في شق منه ثم استعير لكل إمالة عن استقامة، فقالوا: ألحد فلان في قوله، وألحد في دينه، ومنه الملحد، لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها، لم يمله عن دين إلى دين، والمعنى: لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان {أَعْجَمِيٌّ} غير بين {وَهذا} القرآن {لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ذو بيان وفصاحة ردّا لقولهم وإبطالا لطعنهم، وقرئ {يُلْحِدُونَ} بفتح الياء والحاء، وفي قراءة الحسن: اللسان الذي يلحدون إليه بتعريف اللسان.
فإن قلت: الجملة التي هي قوله: {لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} ما محلها؟ قلت: لا محل لها، لأنها مستأنفة جواب لقولهم، ومثله قوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} بعد قوله: {وَإِذا جاءتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ}.

.[سورة النحل: الآيات 104- 105]

{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)}.
{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ} أي يعلم اللّه منهم أنهم لا يؤمنون {لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ} لا يلطف بهم، لأنهم من أهل الخذلان في الدنيا والعذاب في الآخرة، لا من أهل اللطف والثواب {إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ} ردّ لقولهم: {إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ} يعني: إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن، لأنه لا يترقب عقابًا عليه {وَأُولئِكَ} إشارة إلى قريش {هُمُ الْكاذِبُونَ} أي هم الذين لا يؤمنون فهم الكاذبون. أو إلى الذين لا يؤمنون. أي أولئك هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب، لأنّ تكذيب آيات اللّه أعظم الكذب: أو أولئك هم الذين عادتهم الكذب لا يبالون به في كل شيء، لا تحجبهم عنه مروءة ولا دين. أو أولئك هم الكاذبون في قولهم: {إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ}.

.[سورة النحل: الآيات 106- 109]

{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109)}.
{مَنْ كَفَرَ} بدل من الذين لا يؤمنون بآيات اللّه، على أن يجعل {وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ} اعتراضًا بين البدل والمبدل منه، والمعنى: إنما يفترى الكذب من كفر باللّه من بعد إيمانه.
واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء، ثم قال: {وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أي طاب به نفسا واعتقده {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} ويجوز أن يكون بدلا من المبتدإ الذي هو {أُولئِكَ} على: ومن كفر باللّه من بعد إيمانه هم الكاذبون. أو من الخبر الذي هو الكاذبون، على: وأولئك هم من كفر باللّه من بعد إيمانه، ويجوز أن ينتصب على الذمّ، وقد جوّزوا أن يكون {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ} شرطًا مبتدأ، ويحذف جوابه، لأنّ جواب {مَنْ شَرَحَ} دال عليه، كأنه قيل: من كفر باللّه فعليهم غضب، إلا من أكره، ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب. روى أنّ ناسًا من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان، منهم عمار، وأبواه- ياسر وسمية- وصهيب، وبلال، وخباب، وسالم: عذبوا، فأمّا سمية فقد ربطت بين بعيرين وو جيء في قبلها بحربة، وقالوا: إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت، وقتل ياسر وهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها، فقيل يا رسول اللّه، إن عمارًا كفر، فقال: «كلا، إنّ عمارًا مليء إيمانًا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» فأتى عمار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يبكى، فجعل النبي صلى اللّه عليه وسلم يمسح عينيه، وقال: «مالك! إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» ومنهم جبر مولى الحضرمي، أكرهه سيده فكفر ثم أسلم مولاه وأسلم، وحسن إسلامهما، وهاجرا. فإن قلت: أي الأمرين أفضل، أفعل عمار أم فعل أبويه؟ قلت: بل فعل أبويه، لأنّ في ترك التقية والصبر على القتل إعزازًا للإسلام، وقد روى أنّ مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول اللّه. قال: فما تقول فىّ؟
قال أنت أيضًا، فخلاه، وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول اللّه. قال: فما تقول فىّ؟
قال أنا أصمّ. فأعاد عليه ثلاثًا، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: «أما الأوّل فقد أخذ برخصة اللّه، وأمّا الثاني فقد صدع بالحق فهنيئًا له» ذلِكَ إشارة إلى الوعيد، وأنّ الغضب والعذاب يلحقانهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة، واستحقاقهم خذلان اللّه بكفرهم وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الكاملون في الغفلة، الذين لا أحد أغفل منهم، لأنّ الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها.